سورة القصص - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}
قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها} قيل: لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون، وفشا ذلك، منه فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا وقال السدي: كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب مراكبه، حتى كان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف- قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر- ثم علم موسى بركوب فرعون، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت القائلة، وهو وقت الغفلة، قال ابن عباس وقال أيضا: هو بين العشاء والعتمة.
وقال ابن إسحاق: بل المدينة مصر نفسها، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون، وعاب عليهم عبادة فرعون والأصنام، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها. قال سعيد بن جبير وقتادة: وقت الظهيرة والناس نيام.
وقال ابن زيد: كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة، وغاب عنها سنين، وجاء والناس على غفلة بنسيانهم لأمره، وبعد عهدهم به، وكان ذلك يوم عيد.
وقال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها، فدخلها حين علم ذلك منهم، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله، فاستغفر ربه فغفر له ويقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، فدخلت {عَلى} في هذه الآية لان الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفله، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة، وكذا الآية. {فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ} والمعنى: إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته، أي من بني إسرائيل. {وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ} أي من قوم فرعون. {فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} أي طلب نصره وغوثه، وكذا قال في الآية بعدها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لان نصر المظلوم دين في الملل كلها على الأمم، وفرض في جميع الشرائع. قال قتادة: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه، فاستغاث بموسى. قال سعيد بن جبير: وكان خبازا لفرعون. {فَوَكَزَهُ مُوسى} قال قتادة: بعصاه وقال مجاهد: بكفه، أي دفعه والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود: {فلكزه}.
وقيل: اللكز في اللحى والوكز على القلب.
وحكى الثعلبي أن في مصحف عبد الله بن مسعود {فنكزه} بالنون والمعنى واحد.
وقال الجوهري عن أبي عبيدة: اللكز الضرب بالجمع على الصدر.
وقال أبو زيد: في جميع الجسد، واللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز، عن أبي عبيدة أيضا.
وقال أبو زيد: هو بالجمع في اللهازم والرقبة، والرجل ملهز بكسر الميم.
وقال الأصمعي: نكزه، أي ضربه ودفعه. الكسائي: نهزه مثل نكزه ووكزه، أي ضربه ودفعه. ولهده لهدا أي دفعه لذلة فهو ملهود، وكذلك لهده، قال طرفة يذم رجلا:
بطي عن الداعي سريع إلى الخنا *** ذلول بإجماع الرجال ملهد
أي مدفع وإنما شدد للكثرة وقالت عائشة رضي الله عنها: فلهدني- تعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهده أوجعني، خرجه مسلم. ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه، وهو معنى: {فَقَضى عَلَيْهِ}. وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه قال:
قد عضه فقضي عليه الأشجع {قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أي من إغوائه قال الحسن: لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال، لأنها كانت حال كف عن القتال. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} خبر بعد خبر. {قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس، فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر، ثم لم يزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى أنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. وإنما عدده على نفسه ذنبا وقال: {ظلمت نفسي فاغفر لي} من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضا فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه. قال وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة.
وقال كعب: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله مع ذلك خطأ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل.
وروى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إن الفتنة تجئ من ها هنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض» وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}. قوله تعالى: {قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي من المعرفة والحكمة والتوحيد {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} أي عونا للكافرين. قال القشيري: ولم يقل بما أنعمت على من المغفرة، لان هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل.
وقال الماوردي: {بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} فيه وجهان: أحدهما- من المغفرة، وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي. قال المهدوي: {بما أنعمت على} من المغفرة فلم تعاقبني. الوجه الثاني- من الهداية. قلت: {فَغَفَرَ لَهُ} يدل على المغفرة، والله أعلم. قال الزمخشري قوله تعالى: {بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره، أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لا تؤبن {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبه في جميع الشرائع. وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الإسرائيلي كان كافرا وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافر على كافر، فقال: لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين.
وقيل: ليس هذا خبرا بل هو دعاء، أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين.
وقال الفراء:
المعنى، اللهم فلن أكون بعد ظهيرا للمجرمين، وزعم أن قوله هذا هو قول ابن عباس قال النحاس: وأن يكون بمعنى الخبر أولي وأشبه بنسق الكلام، كما يقال: لا أعصيك لأنك أنعمت علي، وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء، لان ابن عباس قال: لم يستثن فابتلي من ثاني يوم، والاستثناء لا يكون في الدعاء، لا يقال: اللهم أغفر لي إن شئت، وأعجب الأشياء أن الفراء روى عن ابن عباس هذا ثم حكى عنه قوله. قلت: قد مضى هذا المعنى ملخصا مبينا في سورة النمل وأنه خبر لا دعاء وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله وهذا نحو قوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الثانية: قال سلمة بن نبيط: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال: أعطهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه. فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا؟ وقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
وقال عبيد الله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخا يأخذ بقلمه، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان؟ فقال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري، قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهير للمجرمين} قال ابن عباس: فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله، فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه- قال عطاء: فلا يحل لاحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم». ويروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من مشي مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الاقدام ومن مشي مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الاقدام».
وفي الحديث: «من مشى مع ظالم فقد أجرم» فالمشي مع الظالم لا يكون جرما إلا إذا مشي معه ليعينه، لأنه ارتكب نهي الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً} قد تقدم في طه وغيرها أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخافون، ردا على من قال غير ذلك، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه فقيل: أصبح خائفا من قتل النفس أن يؤخذ بها.
وقيل: خائفا من قومه أن يسلموه.
وقيل: خائفا من الله تعالى. {يَتَرَقَّبُ} قال سعيد بن جبير: يتلفت من الخوف وقيل: ينتظر الطلب. وينتظر ما يتحدث به الناس.
وقال قتادة: {يَتَرَقَّبُ} أي يترقب الطلب.
وقيل: خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الإسرائيلي. و{أصبح} يحتمل أن يكون بمعنى صار، أي لما قتل صار خائفا. ويحتمل أن يكون دخل في الصباح، أي في صباح اليوم الذي يلي يومه. و{خائِفاً} منصوب على أنه خبر أصبح، وإن شئت على الحال، ويكون الظرف في موضع الخبر. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي خلصه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أرد أن يسخره. والاستصراخ الاستغاثة. وهو من الصراخ، وذلك لان المستغيث يصرخ ويصوت في طلب الغوث. قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الظنابيب
قيل: كان هذا الإسرائيلي المستنصر السامري استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلى المطبخ، ذكره القشيري و{الَّذِي} رفع بالابتداءو- {يَسْتَصْرِخُهُ} في موضع الخبر. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. وأمس لليوم الذي قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين فإذا دخله الالف واللام أو الإضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين. منهم من يبنيه وفيه الالف واللام.
وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمس مجري ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب، وقال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ***
فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع، فأجري أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية. {قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} والغوي الخائب، أي لأنك تشاد من لا تطيقه.
وقيل: مضل بين الضلالة، قتلت بسببك أمس رجلا، وتدعوني اليوم لآخر. والغوي فعيل من أغوى يغوي، وهو بمعنى مغو، وهو كالوجيع والأليم بمعنى الموجع والمؤلم وقيل: الغوي بمعنى الغاوي. أي إنك لغوي في قتال من لا تطيق دفع شره عنك.
وقال الحسن: إنما قال للقبطي {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} في استسخار هذا الإسرائيلي وهم أن يبطش به. يقال: بطش يبطش ويبطش والضم أقيس لأنه فعل لا يتعدى. {قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} قال ابن جبير. أراد موسى أن يبطش بالقبطي فتوهم الإسرائيلي أنه يريده، لأنه أغلظ له في القول، فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} فسمع القبطي الكلام فأفشاه.
وقيل: أراد أن يبطش الإسرائيلي بالقبطي فنهاه موسى فخاف منه، فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ}. {إِنْ تُرِيدُ} أي ما تريد. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} أي قتالا، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. {وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي من الذين يصلحون بين الناس.


{وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)}
قوله تعالى: {وَجاءَ رَجُلٌ} قال أكثر أهل التفسير: هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ذكره الثعلبي وقيل: طالوت، ذكره السهيلي.
وقال المهدوي عن قتادة: اسمه شمعون مؤمن آل فرعون.
وقيل: شمعان، قال الدارقطني: لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون. وروي أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل الخبر، ف {قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي يتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس.
وقيل: يأمر بعضهم بعضا. قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أم بعضهم بعضا، نظيره قوله: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}.
وقال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر
{فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي ينتظر الطلب. {قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. قيل: الجبار الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن.
وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى. قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ} لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا، لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين، للنسب الذي بينه وبينهم، لان مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وراي حاله وعدم معرفته بالطريق، وخلوه من زاد وغيره، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله: {عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ} وهذه حالة المضطر. قلت: روى أنه كان يتقوت ورق الشجر، وما وصل حتى سقط خف قدميه. قال أبو مالك: وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم: اطلبوه في ثنيات الطريق، فإن موسى لا يعرف الطريق. فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة، فقال لموسى: اتبعني فاتبعه، فهداه إلى الطريق. فيقال: إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه. ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعية الغنم من مدين. وهو أكثر وأصح.
وقال مقاتل والسدي: إن الله بعث إليه جبريل، فالله أعلم وبين مدين ومصر ثمانية أيام، قاله ابن جبير والناس. وكان ملك مدين لغير فرعون.


{وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}
فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ} مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها. ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه. ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل. فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامه *** وضعن عصى الحاضر المتخيم
وقد تقدمت هذه المعاني في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها}. ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفة قال الشاعر:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا *** والعصم من شعف الجبال الفادر
وقيل: قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم، وقد مضى القول فيه في الأعراف. والامة: الجمع الكثير و{يَسْقُونَ} معناه ماشيتهم. و{مِنْ دُونِهِمُ} معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الامة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قول عليه السلام: «فليذادن رجال عن حوضي» وفي بعض المصاحف: {امرأتين حابستين تذودان} يقال: ذاد يذود إذا حبس. وذدت الشيء حبسته، قال الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما *** أذود بها سربا من الوحش نزعا
أي أحبس وأمنع وقيل: {تَذُودانِ} تطردان، قال:
لقد سلبت عصاك بنو تميم *** فما تدري بأي عصا تذود
أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام: تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس، فحذف المفعول، إما إيهاما على المخاطب، وإما استغناء بعلمه. قال ابن عباس: تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء. قتادة: تذودان الناس عن غنمهما، قال النحاس: والأول أولى، لان بعده {قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ} ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء. فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما {قالَ ما خَطْبُكُما} أي شأنكما، قال رؤية:
يا عجبا ما خطبه وخطبي ابن عطية: وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الامر، فكأنه بالجملة في شر، فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير، فالمعنى: لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى، وحينئذ تردان. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: {يصدر} من صدر، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء. والباقون {يُصْدِرَ} بضم الياء من أصدر، أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع، مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. قالت فرقة: كانت الآبار مكشوفة، وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة: إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما، وإن لم يكن فيه بقية عطشت غنمهما، فرق لهما موسى، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد. ابن جريج: عشرة. ابن عباس: ثلاثون. الزجاج: أربعون، فرفعه. وسقى للمرأتين، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة.
وقيل: إن بئرهم كانت واحدة، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات. روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها واسقي ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما.
الثانية: إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية؟ قيل له: ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة.
الثالثة: قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} إلى ظل سمرة، قاله ابن مسعود. وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: {إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وكان لم يذق طعاما سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره، فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، يكون بمعنى المال كما قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ويكون بمعنى القوة كما قال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ويكون بمعنى العبادة كقول: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق على الله. ويروى أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه.
وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله: {إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك. قلت: ما ذكره أهل التفسير أولى، فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب.
الرابعة: قوله تعالى: {فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ} في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر، قدره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه- وقيل الصغرى- أن تدعوه له، {فجاءت} على ما في هذه الآية قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعا من النساء، خراجة ولاجة.
وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم درعها، قاله عمر بن الخطاب. وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون وهو شعيب عليه السلام.
وقيل: ابن أخي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات. وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} كذا في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} قال قتادة: بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. وقد مضى في الأعراف الخلاف في أسم أبيه فروى أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر إليها فقال: ارجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل: إن موسى قال ابتداء: كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا، فذلك سبب وصفها له بالأمانة، قاله ابن عباس. فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى: لا أكل، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا، فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام، فحينئذ أكل موسى.
الخامسة: قوله تعالى: {قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة، وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس، خلاف للأصم حيث كان عن سماعها أصم.
السادسة: قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} الآية. فيه عرض الولي ابنته على الرجل، وهذه سنة قائمة، عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر: لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر، الحديث انفرد بإخراجه البخاري.
السابعة: وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه، لان صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الأمصار. وخالف في ذلك أبو حنيفة. وقد مضى.
الثامنة: هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استيمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قوي في الباب، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات، كما تقدم. وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها، لأنها بلغت حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا، بغير خلاف.
التاسعة: أستدل أصحاب الشافعي بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والانكاح. وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه.
وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ.
وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، أما الشافعية فلا حجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن ابن حي فقالوا: ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه، لان الطلاق يقع بالصريح والكناية، قالوا: فكذلك النكاح قالوا: والذي خص به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال: إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وهو عندي جائز كالبيع. قال أبو عمر: الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال. وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقوله: أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العاشرة: قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ} يدل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له، لان العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح، لأنه خيار وشئ من الخيار لا يلصق بالنكاح.
الحادية عشرة: قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا.
قلت: فهذه أربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة. الأولى من الأربع مسائل، قال علماؤنا: أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، وإنما عرض الامر مجملا، وعين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى. يروى عن أبي ذر قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}». قيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها، لأنه رءاها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا، والله أعلم.
وفي بعض الاخبار أنه تزوج بالكبرى حكاه القشيري.
الثانية: وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه، فإما رسماه، وإلا فهو من أول وقت العقد.
الثالثة: وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن، رواه الأئمة، وفي بعض طرقه: فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما تحفظ من القرآن فقال: سورة البقرة والتي تليها، قال: فعلمها عشرين آية وهي امرأتك». واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب، وهو قول الشافعي وأصحابه، قالوا: يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة: لا يصح، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة، لان العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
وقال أبو بكر الرازي: لا يصح لان الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان وقال ابن القاسم: ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده.
وقال أصبغ: إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب، قاله مالك وابن المواز وأشهب. وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة، قال ابن خويز منداد. تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح ويكره أن تجعل الإجارة مهرا، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ}. هذا قول أصحابنا جميعا.
الرابعة: وأما قوله: ودخل ولم ينقد فقد أختلف الناس في هذا، هل دخل حين عقد أم حين سافر؟ فإن كان حين عقد فماذا نقد؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لان المتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة، وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط. وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة، نص عليه علماؤنا.
الثانية عشرة: في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول- قال في ثمانية أبي زيد: يكره ابتداء فإن وقع مضى.
الثاني- قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده، لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة.
الثالث- أجازه أشهب وأصبغ. قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية، وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع- وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح، قال المزني: وذلك مثل قول الشاعر:
يقول العبد فائدتي ومالي *** وتقوى الله أفضل ما استفادا
وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ} جري ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول. وقد ترجم البخاري: (باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل) لقوله تعالى: {عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ}. قال المهلب: ليس كما ترجم، لان العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها، مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم. قال ابن العربي: وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه.
الرابعة عشرة: أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة، فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا، قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدا، وقد أستأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا، وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها، وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا، وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته. وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر.
الخامسة عشرة: قال مالك: وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لأنه أمين كالوكيل. وقد ترجم البخاري: (باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد) وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه: «أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي- أو أرسل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يسأله- وأنه سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أرسل إليه- فأمره بأكلها»، قال عبد الله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب: فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب، وهذا قول مالك وجماعة.
وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة.
وقال غيره: يضمن حتى يبين ما قال.
السادسة عشره- واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت، فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه، لان الانزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب: عليه الضمان، وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل، لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه. السبعة عشرة- لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام، ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن.
وقال غير يحيي: بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بلقا. وذكر القشيري أن شعيبا لما أستأجر موسى قال له: أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا، وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنا، فلما أصبح قال له: سق الأغنام إلى مفرق الطريق، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا، فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا أثر الخصب باد عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال: كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون- أي ذات لونين- فهو لك، فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة.
وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه فقال له شعيب لك منها- يعني من نتاج غنمه- ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول». قال الهروي: العزوز البكيئة، مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة، وقد تعززت الشاة. والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الا حليل، ومثله الفتوح والثرور. ومن أمثالهم: لأفشنك فش الوطب أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك. ويقال: فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث: «إن الشيطان يفش بين أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث» أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش: الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضا، سميت بذلك لا نكماش ضرعها وهو تقلصه، ومنه يقال: رجل كميش الإزار. والكشود مثل الكموش. والضبوب الضيقة ثقب الإحليل. والضب الحلب لشدة العصر. والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل. والثعل زيادة السن، وتلك الزيادة هي الراءول. ورجل أثعل. والثعل ضيق مخرج اللبن. قال الهروي: وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها.
الثامنة عشرة: الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز، فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الغرر، ونهى عن المضامين والملاقيح. والمضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر:
ملقوحة في بطن ناب حامل وقد مضى في سورة الحجر بيانه. على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه، وبه قال أحمد.
التاسعة عشرة: الكفاءة في النكاح معتبرة، واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}. وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه وراي من حاله، وأعرض عما سوى ذلك. وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله. الموفيه عشرين- قال بعضهم: هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الاعراب، فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوضا، ونكاح التفويض جائز. قال ابن العربي: هذا الذي تفعله الاعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالأنبياء، فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه، فقد أختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما- أنه جائز. والآخر- لا يجوز. والذي يصح عندي التقسيم، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كانت ثيبا جاز، لان نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل، فإن وقع فسخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية. والحمد الله.
الحادية والعشرون: لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالأول، ولا اشترك الفرض والطوع، ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال وتطوع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوع وقيل: ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في الأحزاب. وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا، ووكل العاشرة إلى المروءة.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: {قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ} لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و{أَيَّمَا} استفهام منصوب ب {قَضَيْتُ} و{الْأَجَلَيْنِ} مخفوض بإضافة {أي} إليهما و{ما} صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه {فَلا عُدْوانَ} وأن {عُدْوانَ} منصوب ب {لا}.
وقال ابن كيسان: {ما} في موضع خفض بإضافة {أي} إليها وهي نكرة و{الْأَجَلَيْنِ} بدل منها وكذلك قوله: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أي رحمة بدل من ما، قال مكي: وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن: {أيما} بسكون الياء. وقرأ ابن مسعود: {أي الأجلين ما قضيت} وقرأ الجمهور: {عُدْوانَ} بضم العين. وأبو حيوة بكسرها، والمعنى: لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه. والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون قال الشاعر:
لمن الديار بقنة الحجر *** أقوين من حجج ومن دهر
الواحدة حجة بكسر الحاء. {وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ} قيل: هو من قول موسى.
وقيل: هو من قول والد المرأة. فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الاشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الاشهاد في النكاح، وهي: الثالثة والعشرون: على قولين: أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك: إنه ينعقد دون شهود، لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الاشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدف. وقد مضت هذه المسألة في البقرة مستوفاة وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا، فقال ايتني بكفيل، فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه، وذكر الحديث.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8